فِيهِ، فلقد دخل فِي تِلْكَ السنتين أكثر مما كَانَ دخل فِيهِ قبل ذَلِكَ، وَكَانَ صلح الحديبية فتحا عظيما. ولما قدم رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم المدينة واطمأن بِهَا، أقبل إليه أبو بصير عتبة بْنِ أَسِيدِ بْنِ جَارِيَةَ الثَّقَفِيِّ، حَلِيفِ بَنِي زهرة، فكتب إلى رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وسلم الأخنس بن شريق الثقفي، والأزهر ابن عبد عوف، وبعثا بكتابهما مع مولى لهما ورجل من بني عَامِر بن لؤي، استأجراه ليرد عليهم صاحبهم أبا بصير، فقدما عَلَى رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وسلم ودفعا إليه كتابهما، فدعا رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وسلم أبا بصير فقال لَهُ: يا أبا بصير، إن هؤلاء القوم قد صالحونا عَلَى ما قد علمت، وإنا لا نغدر، فالحق بقومك. فقال: يا رسول الله، تردني إلى المشركين يفتنوني فِي ديني؟! فقال رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وسلم: اصبر يا أبا بصير واحتسب، فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين من الْمُؤْمِنِين فرجا ومخرجا. قال: فخرج أبو بصير وخرجا حَتَّى إذا كانوا بذي الحليفة، جلسوا إلى سور جدار فقال أبو بصير للعامري: أصارم سيفك؟ قَالَ: نعم. قَالَ: أنظر إليه؟ قَالَ: إن شئت فاستله. فضرب بِهِ عنقه، وخرج المولى يشتد [1] وطلع عَلَى رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وسلم وهو جالس فِي المسجد، فلما رآه قَالَ: هَذَا رجل قد رأى فزعا. فلما انتهى إليه قَالَ: قتل صاحبكم صاحبي. فما برح حَتَّى طلع أبو بصير متوشح السيف، فوقف عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فقال: يا رسول الله وفت ذمتك، وقد امتنعت بنفسي. فقال رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وسلم. ويل أمه! محش [2] حرب، لو كَانَ معه رجال!.
فخرج أبو بصير حَتَّى نزل بالعيص، وَكَانَ طريق أهل مكة إلى الشام، فسمع بِهِ من كَانَ بمكة من المسلمين، فلحقوا بِهِ حَتَّى كَانَ فِي عصبة من المسلمين قريب من ستين أو سبعين، وكانوا لا يظفرون برجل من قريش إلا قتلوه، ولم يمر بهم عير إلا اقتطعوها، حَتَّى كتبت فيهم قريش إلى رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وسلم يسألونه بأرحامهم لِمَا آواهم، فلا حاجة لنا بهم، ففعل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقدموا عَلَيْهِ المدينة [3] . وقيل إن أبا جندل بن سهيل بن عَمْرو كَانَ ممن لحق بأبي بصير، وَكَانَ عنده. فلما أرسلت قريش إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أمرهم كتب إلى أبي بصير وأبي جندل ليقدما عَلَيْهِ فيمن معهما فقرأ أبو جندل كتاب رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وسلم وَأَبُو بصير مريض، فمات، فدفنه أَبُو جندل وصلى عَلَيْهِ، وبنى عَلَي قبره مسجدا.
أخرجه أبو عمر. [1] أي: يسرع. [2] أي: موقد حرب ومهيجها. [3] انظر سيرة ابن هشام: 2/ 322- 324.