قلت: نقلت هَذَا القول- من أن النضر لَهُ صحبة، وشهد حنينا- من نسخ صحيحة، أما كتاب ابن منده فمن ثلاث نسخ مسموعة مصححة، منها نسخة هي أصل أصبهان من عهد المصنف إلى الآن، وذكراه فيمن اسمه النضر، وبعده النضر بن سلمة الهذلي. وهذا وهم فاحش، فإنهما أولا جعلاه «الحارث بن كلدة بن علقمة» وإنما هُوَ «علقمة بن كلدة» . ذكر ذَلِكَ الزبير، وابن الكلبي، وقالا: «النضر بْن الحارث بْن علقمة بْن كلدة بن عبد مناف بن عبد الدار [1] ، وكذلك ساق نسبه أَبُو عمر فِي ترجمة أخيه النضير عَلَى ما نذكره إن شاء اللَّه تَعَالى.
والوهم الثاني أنهما جعلا النضر لَهُ صحبة، وهو غلط، فإن النضر أسر يوم بدر، وقتل كافرا، قتله عَليّ بن أبي طالب، أمره رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك. أجمع أهل المغازي والسير عَلَى أَنَّهُ قتل يوم بدر كافرا، وإنما قتله لأنه كَانَ شديدا عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم والمسلمين. ولما قتل قالت أخته- وقيل: ابنته قتيلة- أبياتا أولها [2] :
يا راكبا، إن الأثيل [3] مظنة ... من صبح خامسة، وأنت موفق
أبلغ بِهِ ميتا بأن تحية ... ما إن تزال بها النجائب تعنق [4]
مني إليه، وعبرة مسفوحة ... جادت لمائحها، وأخرى تخنق [5]
فليسمعن النضر إن ناديته ... إن كَانَ يسمع ميت لا ينطق [6]
ظلت سيوف بني أبيه تنوشه، ... للَّه أرحام هناك تشقق! [7]
قسرا يقاد إلى المنية متعبا ... رسف المقيد، وهو عان موثق [8] [1] انظر كتاب نسب قريش لمصعب الزبيري: 255، وجمهرة أنساب العرب لابن حزم: 126. هذا وقد قال ابن هشام في السيرة 1/ 70، بعد قول ابن إسحاق: «النضر بن الحارث بن كلدة بن علقمة» ، قال ابن هشام: «ويقال: النضر بْن الحارث بْن علقمة بْن كلدة» . [2] الأبيات في كتاب نسب قريش لمصعب الزبيري: 255، والبيان والتبيين للجاحظ: 4/ 44، وديوان الحماسة لأبى تمام: 1/ 289، 290. [3] «الأثيل» - مصغرا-: عين ماء بين بدر ووادي الصفراء. «من صبح خامسة» أي في صبح ليلة خامسة، تقول:
يا راكبا، إن الأثيل يظن أن نبلغه في صبح الليلة الخامسة، وأنت موفق لإبلاغ رسالتي.
[4] أي: تسرع، وفي المراجع المتقدمة: «تخفق» .
[5] «مسفوحة» : مصبوبة. والمائح: النازل في البئر ليملأ الدلو. والمعنى: إذا وصلت هذا المكان، فبلغ ساكنيه تحية، لا تزال الركائب تتحرك بها منى إليه، وبلغه عبرة مصبوبة، استنزفها من العين فقده، واخرى آخذة بالحلق.
[6] يقول: على النضر أن يسمع نداءك، إن كان الميت يسمع أو ينطق.
[7] تنوشه: تتناوله. يقول: لم يقتله أحد غير بنى أبيه، فعجبا من أرحام تتقطع هناك؟
[8] رسف يرسف رسفا ورسيفا: مشى مشى المقيد. والعاني: الأسير.