الأصوات ولا تئوبن فيه الحرم [1] ، ولا تنثى [2] فلتاته، معتدلين يتواصون فيه بالتقوى، متواضعين يوقرون فيه الكبير ويرحمون فيه الصغير، ويؤثرون ذا الحاجة ويحفظون الغريب.
قلت: كيف كانت سيرته في جلسائه؟ قال:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم دائم البشر، سهل الخلق، لين الجانب، ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب [3] في الأسواق، ولا فاحش ولا عياب ولا مداح، يتغافل عما لا يشتهي، ولا يؤيس منه ولا يحبب فيه، قد ترك نفسه من ثلاث: المراء، والإكثار، وما لا يعنيه. وترك الناس من ثلاث: كان لا يذم أحدا ولا يعيره، ولا يطلب عورته، ولا يتكلم إلا فيما يرجو ثوابه، إذا تكلم أطرق جلساؤه، كأنما على رءوسهم الطير، وإذا سكت تكلموا، ولا يتنازعون عنده الحديث. من تكلم أنصتوا له حتى يفرغ، حديثهم عنده حديث أولهم، يضحك مما يضحكون منه، ويتعجب مما يتعجبون منه، ويصبر للغريب على الجفوة في منطقه ومسألته حتى كان أصحابه يستجلبونهم فيقول: إذا رأيتم طالب حاجة يطلبها فأرفدوه، ولا يقبل الثناء إلا من مكافئ [4] ، ولا يقطع على أحد حديثه حتى يجوز فيقطعه بنهي أو قيام.
قال: فسألته كيف كان سكوته؟ فقال:
كان سكوت رسول الله صلى الله عليه وسلم على أربع، على الحلم، والحذر، والتقدير، والتفكير فأما تقديره ففي تسوية النظر والاستماع من الناس، وأما تفكيره ففيما يبقى ويفنى، وجمع له الحلم والصبر، فكان لا يغضبه شيء ولا يستفزه، وجمع له الحذر في أربعة: أخذه بالحسن ليقتدى به، وتركه القبيح ليتناهى عنه، واجتهاده الرأى فيما أصلح أمته، والقيام فيما هو خير لهم، وفيما جمع لهم خير الدنيا والآخرة.
تفسير غريبه
كان فخما مفخما: أي كان جميلا مهيبا، مع تمام كل ما في الوجه، من غير ضخامة ولا نقصان.
والمشذب: المفرط في الطول ولا عرض له، وأصله النخلة إذا جردت عن سعفها كانت أفحش في الطول، يعنى أن طوله يناسب عرضه.
وقوله عظيم الهامة: أي تام الرأس فِي تدويره.
والرجل: بين القطط والسبط.
والعقيصة فعيلة بمعنى مفعولة، وهي الشعر المجموع في القفا من الرأس، يريد: إن تفرق شعره بعد ما جمعه وعقصه فرق- بتخفيف الراء- وترك كل شيء في منبته، وقال ابن قتيبة: كان هذا أول الإسلام ثم فرق شعره بعد.
والأزهر: هو الأنور الأبيض المشرق، وجاء في الحديث الآخر: أبيض مشربا حمرة، ولا تناقض يعنى ما ظهر منه للشمس مشرب حمرة، وما لم يظهر فهو أزهر. [1] أي: لا يذكرن بقبيح، كان يصان مجلسه عن رفث القول. [2] الفلتات جمع فلتة، وهي الزلة أراد أنه لم يكن لمجلسه فلتات فتذاع. [3] أي: صياح. [4] المعنى: لا يقبل الثناء عليه إلا من رجل يعرف حقيقة إسلامه، أو: لا يقبل الثناء إلا من مقارب في مدحه غير مجاوز الحد.