نام کتاب : عقد الجمان في تاريخ أهل الزمان نویسنده : العيني، بدر الدين جلد : 1 صفحه : 181
وكان السلطان قائما بمكانه، ولم يبرح، ثابتا في موقفه لم يتزحزح، في نفر قليل من المماليك الأضاغر، وما حوله من أثقال العساكر، لأن العسكر تفرق، فبعض ذهب خلف العدّو في الطلب، وبعضهم أدبر هزيما لما ظن أن لهم الغلب، فرأى السلطان من الحزم أن تطوى السناجق، وتخفى البيارق، وتبطل الكوسات، وتخفض الأصوات، ومرت ميمنة التتار راجعة على الأعقاب، ناجية منبجي الذباب، وعاينوا السلطان وافقا في السواد الذي حوله، وقد تكاثف حواليه، فلم يقدموا عليه، وطلبوا طريق الرستن ليلحقوا بأصحابهم، وأسرعةا في ذهابهم لا يهتدون إلى صوابهم:
ولّوا طرائد للحتوف ترى لهم ... بين الصفوف عجاجة وعجيجا
وتخوفوا نار السيوف ويومهم ... أمسي بنيران السموم وهيجا
والوحش يقسم لا آكلن شواهم ... إلا شواه بالهجير نضيجا
وكتبت البطائق المخلّفة، وسرّحت بها أطيار البشائر محلّقة، فتراجع بعض الميسرة التي جرّت ذيول الهزائم، واستبشر الناس بما أتى الله سلطانهم المنصور من نصر العزائم، وخاب من ولّى الأدبار وخار، وحاز الصابرون أجزل الفخار.
وعاد السلطان من يومه إلى المنزلة، وعاين القتلى بها مجدّلة، وقد نهبت الأثقال والوطاقات، منها ما نهبه التتار، ومنها ما نهبته الحرافيش والكسّابة، فلم يفكر فيما ذهب من قماش أو ذهب، وكان قد أحرز ما في الخزائن من العين، قبل وقوع العين على العين، وفرقه على مماليكه أكياسا، في كل كيس ألف دينار، ليحملوه إلى أن تنجلي الوقعة، وتتفق الرجعة، فلما نهبت الصناديق وجد الناس صناديق الخزانة فارغة من المال، فلم يعدم منه مثقال، وكانت جملته مائتي ألف دينار.
قال بيبرس: ولقد حملت منه كيسا وقت تفرقته، وأعدته سالما بجملته.
وبات السلطان تلك الليلة، والعساكر متفرقة، والجيوش متمزقة، والخيول مغّربة ومشرّفة، وتراجع الناس، وغلب الرجاء اليأس.
ولما كان سحر الجمعة، صبيحة يوم الوقعة، قام في الخيام صائح ايقظ النوام، وظن الناس أن التتار عادوا مكابسة، وعاد الحرب مخالسة، فركب السلطان وركب معه من كان بالدهليز من المماليك والسنجقيّة، فانكشف الخبر بعد ساعة، بأن جماعة من العسكر الذين تبعوا التتار المنهزمين عادوا إلى الوطاق.
وأسفر صباح يوم الجمعة المبارك، الخامس عشر من شهر رجب، والعدوّقد ولّى هاربا، ولم يبلغ أربا، وسارت الجيوش الإسلامية في إثرة طلبا، فنالت منه قتلا وأسرا، ونهباً وسبيا، وضربت البشائر والتهاني، وتحققت الآمال والأماني، وكتبت الكتب الشريفة بهذه الأخبار إلى الأقطار، وركضت سوابق الخيول بالانتصار إلى الأمصار، ولم يبق بلد ولا مدينة ولا ثغر من ثغور الإسلام، بمصر والشام، إلا وقد أعلنت فيه البشائر، وقرئت به كتب النصر على المنابر، فاكتسى الزمان رونقا وبهجة، وأمتلأت بالسرور كل مهجة، وبطقت البطائق في الحصون القريبة من مسالك التتار التي سلكوها للفرار، مثل البيرة، وعينتاب، وبغراس، والدربساك، والراوندان، وأبي قبيس، وشيزر، بأن يأخذوا لهم المراصد، فصار العشرة منهم يقتلهم من المسلمين واحد، وحفظ أهل البيرة عليهم المعابر من الجهة الفراتية، والمخائض إلى الجهة الشرقية، فعبر أكثرهم من غير عبر، فهلك أكثرهم غرقا، وقتل منهم في الهزيمة أكثر ممن قتل عند اللقاء.
وكانت في هذه الكّرة عليهم الكسرة، ولم تغن عنهم الكثرة، فأنزل الله على المسلمين نصره، ورسم السلطان بأن تضرم النار في الأزوار التي على الفرات، فمات أكثر من اختفى فيها حرقا، وأما درب سلمية فإن فرقة منهم فيه سلكوا فهلكوا، وكان على الرحبة طائفة مع أبغا يحاصرها، فلما وصلتها البطائق، وضربت البشائر، أخذت التتار الصيحة، فولوا هاربين، وولى أبغا هاربا، وسار نحو بغداد طالبا، خوفا أن يأخذه أهل البلاد، يتحطفه أهل الحواضر والبواد.
وجهز السلطان العسكر الحلبي إلى حلب، والحمويّ إلى حماة، وجرّد الأمير بدر الدين الأيدمري لتمهيد البلاد وترتيبها وعاد الأمير شمس الدين سنقر الأشقر إلى صهيون، وأما الأمير سيف الدين أيتمش السعديّ، وعلم الدين الدواداري، كراى الترى وولده وتكاجى وجماعة من الأمراء الذين كانوا عنده، فإنهم رغبوا في العود إلى الخدمة الشريفة فعادوا إليه ذكر عود السّلطان إلى دمشق
نام کتاب : عقد الجمان في تاريخ أهل الزمان نویسنده : العيني، بدر الدين جلد : 1 صفحه : 181