نام کتاب : المفصل فى تاريخ العرب قبل الإسلام نویسنده : جواد علي جلد : 13 صفحه : 22
الرسول والخلفاء إلى المدينة، فإنها تدل على وجود تجارة وأعمال في هذه الأرضين ربما كانت قد فاقت أرباح وأعمال أهل مكة، لكننا لا نعرف عنها شيئًا، بسبب عدم اهتمام المؤرخين والأخباريين بأخبارها في الجاهلية، لعدم وجود صلة لها بتأريخ الإسلام، أو بسبب عدم وقوفهم على أخبارها، فلم يتطرقوا لذلك إلى شيء من أحوالها بصورة مفصلة، فظهرت وكأنها قد تأخرت عن مكة من النواحي الاقتصادية بكثير، وصارت مكة، بذلك، الموطن المتفوق الأول في المال وفي الزعامة وفي كل شيء في جزيرة العرب.
لقد أثر الجو إذن على اقتصاد جزيرة العرب، كما أثر عليهم في كل شيء، حتى صيرهم على النحو المعروف، لهم خصائصهم وصفاتهم المميزة لهم عن غيرهم، ولو كان للعرب جو مثل أجواء أوروبية، لكان شأنهم ولا شك في التأريخ شأن آخر. على كل، فقد كتب عليهم أن يعيشوا في الجو المذكور، وكان من نصيبهم في هذه الحياة حرارة وجفاف، وحرارة ورطوبة، وأرضون غلب عليها اليبس والجفاف، فصارت موارد رزقهم شحيحة في الجاهلية، وتخلفوا عن غيرهم في الانتاج وفي الإبداع، وغلب على سوادهم الفقر، والفقر كافر لا يرحم، ولولا "النفط" اليوم، الذي جاء على عرب القرن العشرين بالمال، لما تضخمت جيوب الأسياد، وبنيت القصور الشاهقة الضخمة بالملايين من الجنيهات، وأملي أن يكون هذا المال سببًا في استغلال العرب أنفسهم لمواردهم الظاهرة والباطنة، وأن يكون سببًا من أسباب التعمير، لا الإنفاق والتبذير، وأن يحول الطاقات المهملة إلى طاقات منتجة، قبل أن يأتي يوم تنضب فيه آبار النفط، أو أن يموت النفط فيه أو يهمل، بسبب العثور على موارد تكون أحسن نوعية وأقل كلفة منه.
لقد جعل هذا الجو العرب -كما سبق أن ذكرت- قبائل وشعوبًا متنابذة متخاصمة، متحالفة متعاقدة متآخية، متطرفة في كل شيء، متطرفة في حبها وفي إخلاصها، متطرفة في الوقت نفسه في بغضها وفي حقدها، تميل إلى المادة إلى درجة العبادة، ثم تنطرف في أمور عاطفية بعيدة عن المادة والماديات بعدًا كبيرًا، تمجد العقل والتعقل، وتقيم وزنًا كبيرًا للحكمة ولضرب الأمثال، حتى ليخيل إليك أن كل أفعال الناس وأعمالهم إنما تصدر منهم عن عقل وحكمة، لكنك سرعان ما تصطدم بوجود واقع آخر، هو واقع تغلب العواطف على العقل، وانصياعهم إلى الانفعال وسرعة التأثر وفقدان الوزن بين الأمور بميزان العقل،
نام کتاب : المفصل فى تاريخ العرب قبل الإسلام نویسنده : جواد علي جلد : 13 صفحه : 22