responsiveMenu
فرمت PDF شناسنامه فهرست
   ««صفحه‌اول    «صفحه‌قبلی
   جلد :
صفحه‌بعدی»    صفحه‌آخر»»   
   ««اول    «قبلی
   جلد :
بعدی»    آخر»»   
نام کتاب : المفصل فى تاريخ العرب قبل الإسلام نویسنده : جواد علي    جلد : 1  صفحه : 284
ولا تستسيغ أسلوب حياتهم، ولا تأمنهم، لأن عالمها يختلف عن عالم الحضر، ولأنها تجد من قيود الريف والمدن ما يصعب عليها تحمله، ولأنها ترى في الحضر جماعة حيل وشرّ ومكر فلا تأمنهم، ولا تستطيع أن تطمئن إليهم، مهما أظهر الحضر نحوها من عطف وإحسان. وقد كابدت البداوة كثيرًا كما كابدت الحضارة كثيرًا أيضًا من جراء سوء الفهم هذا الناجم من اختلاف العقليتين.
ويظهر البدوي في عين الحضري الحديث، وكأنه إنسان مزدوج الشخصية جامع للنقيضين، له وجهان. فهو محارب يحارب معك وفي صفوفك، أما إذا شعر أن الهزيمة ستحل بك، فإنه أول من ينقلب عليك، فيمعن عندئذ في سلبك ما معك ونهبه، لا فرق عنده أن يكون الذي يحارب معه وفي صفوفه عربيًّا أو أعجميًّا، شريفًا من أسرة عريقة أم قائدًا محترفًا. وهو كريم جوّاد يقدم لضيفه آخر شيء عنده ليأكله ويحبيه بكل وسائل الإكرام، ولكنه لا يمتنع من سلب غريب يجده في طريقه، ومن أخذ ما عنده. هو رجل متدين لا يحلف كاذبًا مهما رأى النتيجة، ولكن تديّنه تدين بدويّ سطحي إلى غير ذلك من متناقضات.
أما الأعرابي، فيسخر من اتهام الحضري له بهذه التهم، ويعجب من سذاجة منطقه وحكمه، فمنطقه في نظره منطق رجل ساذج مريض معلول، وحكمه حكم إنسان ضعيف ذليل. وإلا فكيف يسمح عقل إنسان سليم لإنسان مثلًا أن يترك أموال صاحبه أو أصحابه تقع في أيدي غيره أو أعدائه، يأخذونها لينعموا بها وليفتخروا بحصولهم عليها، ثم لا يمدّ هو يده إليها يأخذ منها ما يحتاج إليه ويريد؟ ألا يدل هذا العمل على السُّخْفِ والضعف وفساد الرأي؟ إن المحارب في نظر الأعرابي أولى من غِيرة بأموال زميله المحارب، وهو أحق بها من أي إنسان آخر للحصول عليها إن داهمه خطر، وشعر أن تلك الأموال ستقع في أيدي عدوّه، فهو زميله وصديقه، وهو فوق ذلك به حاجة إليها؛ فمن حقه الطبيعي إذن أن يأخذها ولو عَنْوَة ويولي بها ليحرم عدوّه الحصول عليها والحصول على أي مكسب كان من هذه الحرب. ثم إنه إن لم يباشر أخذ ما يجده أمامه في الوقت الملائم، فإن غيره سيأخذه حتمًا، وقد يكون غيره هو خصمه وعدوّه: ولما كانت النفس مقدمة على غيرها، كان من العقل والحكمة أن يأخذ حقه بنفسه، وإلا ضاع حقه عليه وأفلت منه. ومن هنا اختلف منطقه عن منطق الحضري وباين حكمه على الأمور حكم الحضري.

نام کتاب : المفصل فى تاريخ العرب قبل الإسلام نویسنده : جواد علي    جلد : 1  صفحه : 284
   ««صفحه‌اول    «صفحه‌قبلی
   جلد :
صفحه‌بعدی»    صفحه‌آخر»»   
   ««اول    «قبلی
   جلد :
بعدی»    آخر»»   
فرمت PDF شناسنامه فهرست