ولم يكن كذلك إلى أن خُلع، وقُتل وزيره المذكور في داره؛ دخل عليه عوام أهل قرطبة نهارًا فتولوه بالحديد إلى أن بَرَد، وخلعوا المستكفي بالله وأخرجوه عن قرطبة، بعد أن أقام ثلاثة أيام مسجونًا لا يصل إليه طعام ولا شراب، ثم نفوه -كما ذكرنا- فلحق بالثغور، ورجع الأمر إلى يحيى بن علي الفاطمي.
وانتهى المستكفي المذكور من الثغر إلى قرية تعرف بـ شمنت بالقرب من مدينة سالم، ومعه أحد قواده، وهو عبد الرحمن بن محمد بن السليم، ومن ولد سعيد بن المنذر القائد المشهور أيام عبد الرحمن الناصر؛ فكره هذا القائد التمادي معه، فاستدعى المستكفي غداءه، فعمد القائد إلى دجاجة فدهنها له بعصارة نبت يقال له: البيش1 -وهو كثير ببلاد الأندلس وخصوصًا بتلك الجهة- فلما أكلها المستكفي مات مكانه، فغسله وكفنه وصلى عليه ودفنه؛ فقبره هناك، ولا عقب له2.
ثم أقام يحيى بن علي الفاطمي في الولاية نافذ الأمر، إلا أنه لم يدخل قرطبة، وإنما كان مقيمًا بقرمونة كما قد قدمنا، إلى أن قُتل في التاريخ الذي تقدم ذكره.
1- البيش: نبت عصارته سم ناقع.
2- كان قتله سنة 415هـ، وقيل: سنة 416 هـ، والله أعلم. "بغية الملتمس:33".
ولاية هشام المعتدّ بالله*
ولما انقطعت دعوة يحيى بن علي الفاطمي عن قرطبة في التاريخ الذي ذكرنا، أجمع رأي أهل قرطبة على رد الأمر إلى بني أمية، وكان عميدهم في ذلك والذي تولى معظمه وسعى في تمامه، الوزير أبو الحزم جَهْوَر بن محمد بن جهور بن عبيد الله بن محمد بن الغَمْر بن يحيى بن عبد الغافر بن أبي عَبْدة3. وقد كان ذهب كل من ينافس في الرياسة ويخُب في الفتنة بقرطبة؛ فراسل جهور من كان معه على رأيه من أهل الثغور والمتغلبين هنالك على الأمور، وداخلهم في هذا الأمر، فاتفقوا بعد مدة طويلة على تقديم أبي بكر هشام بن محمد بن عبد الملك بن عبد الرحمن الناصر، وهو أخو المرتضي المذكور آنفًا.
وكان هشام هذا مقيمًا بحصن يدعى البُنْت، من الثغور، عند أبي عبد الله محمد بن عبد الله بن قاسم القائد المتغلب بها؛ فبايعوه في شهر ربيع الأول سنة 418، تلقب بـ المعتد بالله.
* ترجمته في: بغية الملتمس: 34؛ جذوة المقتبس: 126؛ الأعلام: 88/8.
3- من أعيان أهل الأندلس، كان موصوفًا بالفضل والدهاء والعقل. "بغية الملتمس: 260".