ولاية أبي الحسن علي بن يوسف بن تاشفين*
وقام بأمره من بعده ابنه علي بن يوسف بن تاشفين، وتلقب بلقب أبيه أمير المسلمين, وسمى أصحابه المرابطين, فجرى على سنن أبيه في إيثار الجهاد, وإخافة العدو، وحماية البلاد. وكان حسن السيرة، جيد الطوية1، نزيه النفس، بعيدًا عن الظلم؛ كان إلى أن يُعَد في الزهاد والمتبتلين2 أقرب منه إلى أن يعد في الملوك والمتغلبين. واشتد إيثاره لأهل الفقه والدين، وكان لا يقطع أمرًا في جميع مملكته دون مشاورة الفقهاء؛ فكان إذا ولى أحدًا من قضاته كان فيما يعهد إليه ألا يقطع أمرًا ولا يبت حكومة في صغير من الأمور ولا كبير إلا بمحضر أربعة من الفقهاء. فبلغ الفقهاء في أيامه مبلغًا عظيمًا لم يبلغوا مثله في الصدر الأول من فتح الأندلس.
ولم يزل الفقهاء على ذلك، وأمور المسلمين راجعة إليهم، وأحكامهم صغيرها وكبيرها موقوفة عليهم، طول مدته، فعظم أمر الفقهاء كما ذكرنا. وانصرفت وجوه الناس إليهم، فكثرت لذلك أموالهم، واتسعت مكاسبهم، وفي ذلك يقول أبو جعفر أحمد بن محمد المعروف بابن البنِّي، من أهل مدينة جَيَّان من جزيرة الأندلس: من الكامل
أهلَ الرياء لبِستمو ناموسكم ... كالذئب أدلج في الظلام العاتمِ3
فملكتمو الدنيا بمذهب مالكٍ ... وقسمتمو الأموال بابن القاسمِ4
وركِبتمو شُهْب الدواب بأشهبٍ ... وبأصبغ صبغت لكم في العالمِ5
وإنما عرَّض أبو جعفر هذا في هذه الأبيات بالقاضي أبي عبد الله محمد بن
* ترجمته في الأعلام: 33/5.
1- الطوية: الضمير.
2- تبتل الرجل: انقطع، وتبتل إلى الله: تفرغ لعبادته.
3- الرياء: النفاق. الناموس: القانون أو الشريعة، أو بيت الراهب، أو مأوى الأسد. أدلج الذئب: سار في الليل, أوله أو آخره. العاتم: من أعتم الليل, وعتم: مرت قطعة منه.
4- مالك: هو الإمام مالك بن أنس، أحد الأئمة الأربعة عند أهل السنة. أبو القاسم: من كبار علماء المالكية.
5- أشهب: هو أشهب بن عبد العزيز القيسي العامري الجعدي: فقيه الديار المصرية في عصره، وصاحب الإمام مالك. توفي سنة 204هـ/819م. "الأعلام، الزركلي: 333/1".