أشد إجهادا من القتال، وكان في هذا كسب معنوي للمسلمين» [1] . وقد نجحت سياسة الحصار الاقتصادي ضد قريش، واضطرتها إلى تغيير طريقها المعتاد، وأن تتنكّب طرقا أخرى وعرة عبر الصحراء حينا وعلى ساحل البحر حينا آخر، وفوق ما في هذا من خسارة جسيمة لقريش فهو شيء لم تألفه ولم تتعود عليه، وهو يحط من هيبتها بين العرب ويزري بمكانتها.
والأخطر من ذلك أن النبي صلّى الله عليه وسلم لم يدعها تنعم بهذه الطرق البديلة التي ظنّتها بعيدة عن متناول المسلمين، فقد لاحقها المسلمون في كل طريق سلكته مما يدل على أن ضرب حصار اقتصادي صارم عليها كان هدفا رئيسيّا من أهداف السياسة النبوية فبعد بدر تجنّبت قريش المرور في الطريق الذي يمر بالمدينة؛ لئلا تصطدم بالمسلمين، فسلكت طريقا آخر- يمر عبر نجد إلى العراق- متجشمة بذلك متاعب كبيرة، وكانت تظن أنها أصبحت في أمان من تصدّي المسلمين لها، ولكن كانت مفاجأتها كبيرة، عندما وجدت المسلمين لها بالمرصاد. فقد علم رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن صفوان ابن أمية بن خلف خرج على رأس قافلة فيها أموال كثيرة، سالكا نجد إلى العراق.
فأرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلم زيد بن حارثة رضى الله عنه على رأس مائة من الصحابة فاعترضوا طريق القافلة وأصابوها جميعها، وأفلت منهم صفوان ومن معه من أعيان القوم، وقدم زيد بالعير على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فخمّسها فبلغ الخمس عشرين ألف درهم، وقسّم الرسول ما بقي على أهل السرية [2] .
أمر سرية زيد هذه يخرج عن نطاق بحثنا؛ لأنها حدثث بعد بدر، لكني ذكرتها لدلالتها على سياسة الحصار الاقتصادي الذي ضربه الرسول صلّى الله عليه وسلم على قريش وستقدم لنا سرية عبد الله بن جحش دليلا آخر على هذه السياسة النبوية الحكيمة.
* سرية عبد الله بن جحش: سرية عبد الله بن جحش رضى الله عنه هي آخر الحملات الصغيرة التي كان يجردها النبي قبل معركة بدر الكبرى، وقد وعدنا أن نخص هذه السرية بكلمة خاصة مفصلة؛ لما ترتب عليها من نتائج، ولطبيعتها أيضا. ونحن قد رأينا أن معظم الغزوات التي قادها النبي صلّى الله عليه وسلم بنفسه والسرايا التي أرسل أحد أصحابه- كانت وجهتها الطريق [1] محمد عبد الفتاح إبراهيم- محمد القائد (ص 18، 19) . [2] ابن سعد- الطبقات الكبرى (2/ 36) .