الأمور تجري على هذا الوضع الصعب في مكة، وبينما كان خصوم الدعوة يظنون أنهم حاصروها وجعلوها تسير في طريق مسدود، كانت المقادير تهيئ للدعوة قوما آخرين اختارهم الله تعالى لها أنصارا ولنبيه أتباعا، فجاءت تباشير النصر من يثرب.
فبينما كان النبي صلّى الله عليه وسلم يعرض نفسه على القبائل في المواسم- دون جدوى- كان عرب يثرب مشغولين في التحضيرات لحرب بعاث، التي كانت آخر مراحل الصراع بينهم، وقد جاء إلى مكة وفد من بني عبد الأشهل على رأسهم أبو الحيسر ابن رافع يلتمسون حلف قريش على بني عمهم الخزرج، فسمع بهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فأتاهم وقال لهم: «هل لكم في خير مما جئتم إليه؟» قالوا: وما ذاك؟ قال: «أنا رسول الله، بعثني إلى العباد أدعوهم إلى أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا وأنزل عليّ الكتاب، ثم ذكر لهم الإسلام وتلا عليهم القرآن» . فقال أحد أعضاء الوفد، وهو إياس بن معاذ: «أي قوم، هذا والله خير مما جئتم له» [1] . ولكن رئيس الوفد رده بأنهم مشغولون بغير هذا.
وإذا كان هؤلاء في شغل بأمر الحرب، فقد شاء الله تعالى أن يلقى النبي صلّى الله عليه وسلم في الموسم نفسه رجالا من الخزرج، فتكلم إليهم بمثل ما تكلم به إلى الأوس؛ فشرح الله صدورهم للإسلام، وقال بعضهم لبعض: «يا قوم، والله إنه للنبي الذي توعدكم به يهود فلا يسبقنكم إليه» . فأجابوه وصدقوه وقالوا له: «إنا قد تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، وعسى أن يجمعهم الله بك فسنقوم عليهم، وندعوهم إلى أمرك، ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الذين، فإن يجمعهم الله عليه فلا رجل أعز منك، ثم انصرفوا وقد آمنوا وصدقوا» [2] .
* التحول الكبير في موقف عرب يثرب:
كان لقاء النبي صلّى الله عليه وسلم بهؤلاء الرجال الخزرجين، فتحا هائلا أمام الدعوة الخالدة، فما أن وصلوا إلى بلدهم وأخبروا قومهم بما حدث بينهم وبينه، حتى أقبلوا عليه بشعف وفشا فيهم الإسلام، فلم يبق دار من دور المدينة إلا وفيها ذكر من رسول الله صلّى الله عليه وسلم ودعوته، وكان صدى ذلك واسع النطاق، وكانت النتيجة أن وفدا من
فلا تطيعوه ولا تسمعوا منه، قال: قلت لأبي: يا أبت من هذا الذي يتبعه ويرد عليه ما يقول؟ قال: هذا عمه عبد العزى بن عبد المطلب أبو لهب» ، المصدر السابق نفسه (2/ 32) . [1] المصدر السابق نفسه (2/ 37) . [2] المصدر السابق نفسه (2/ 38) .