إلى شخصية مشرقية قدمت إلى الأندلس في مطلع ولاية الأمير عبد الرحمن الأوسط ابن الحكم (206- 238 هـ/ 822- 852 م) وحظيت باهتمام قلما حظيت به شخصية أخرى.
وهي شخصية الموسيقي والمغني المشهور «زرياب» صاحب التأثير الكبير في حياة الأندلسيين بصفة عامة، وأهل قرطبة بصفة خاصة، ولم يكن تأثيره في مجال الموسيقى والغناء وإدخاله وترا خامسا للعود فحسب، إنما كان في مجالات عديدة في ألوان الطعام، ونظام الموائد، وحتى في الملابس وما يصلح منها لكل فصل من الفصول، وحتى تصفيف الشعر، وباختصار كل ما يدخل في ما يسميه الناس الآن فن (الإتيكيت) والأناقة ولذلك أطلقوا عليه ملك الأناقة، وقالوا عنه: كأنه نقل بغداد بكل ما فيها إلى الأندلس.
والذي أعطى «زرياب» - واسمه علي بن نافع- هذه الأهمية أنه جاء إلى الأندلس في مطلع حكم الأمير عبد الرحمن الأوسط، وتروي المصادر أن الذي استدعاه كان الأمير الحكم بن هشام، ولكنه عندما وصل إلى الأندلس كان الأمير الحكم قد فارق الحياة، وأصبح ابنه عبد الرحمن الأوسط هو الأمير فاستقدم (زرياب) واحتفى به احتفاء عظيما وأغدق عليه الأموال، ذلك أن عبد الرحمن بن الحكم عاصر المأمون العباسي في نحو اثني عشر عاما من حكمه وكان بلاط بغداد في عهد المأمون قد بلغ الغاية في الفخامة والبهاء وكان عبد الرحمن الأوسط شديد الولع بكل ما هو شرقي، وكان يريد لبلاطه أن يكون مثل بلاط بغداد أو أبهى منه، من هنا كان ترحيبه بفنان ضاقت عنه قصور بغداد بسبب المنافسة بينه وبين أستاذه إسحاق الموصلي الذي ضاق به ذرعا وحسده لما رأى إعجاب الرشيد به فكان هذا مما حمله على ترك بغداد والرحيل إلى الأندلس، ولا بد أنه كان على ثقة من حسن استقباله والاحتفاء به، وهذا هو السبب المشهور، أما أبو بكر بن القوطية فيروي سببا آخر لهجرة زرياب من بغداد إلى الأندلس فيقول [1] : «وقدم زرياب على عبد الرحمن بن الحكم رحمه الله، وكان- زرياب- بالمحل القريب من الأمين بن هارون- الرشيد- وكان المأمون الوالي بعد الأمين، فعد عليه- على زرياب- أشياء، فلما خذل الأمين فرّ زرياب إلى الأندلس، فحل من عبد الرحمن بكل محل، وكان أهلا لذلك في أدبه [1] تاريخ افتتاح الأندلس (ص 62، 63) ويراجع أيضا خوليان ريبيرا- التربية الإسلامية في الأندلس، مرجع سابق (ص 93- 97) .