دراسته على أيدي أساتذته فيها. ولم يغادرها بصفة نهائية- على ما يرجح- إلا في رحلته الأخيرة إلى العراق بعد قيام الدولة العباسية (سنة 132 هـ) ، حيث عاش بقية حياته فيها.
* رحلته إلى العراق:
عاش ابن إسحاق في المدينة المنورة بصفة مستمرة حوالي نصف قرن، ولم يغادرها إلا للحج إلى مكة المكرمة، وزيارته لمصر سنة (115 هـ) - والتي يبدو أنها لم تطل- ويبدو أن من الأسباب التي جعلت ابن إسحاق يلزم المدينة المنورة ولم يغادرها كثيرا أن صلته لم تكن ودية مع دولة بني أمية، فلم نسمع أنه قام بزيارة لعاصمتهم دمشق، وذلك عكس أستاذه محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، الذي كان على علاقة وطيدة مع خلفاء بني أمية ومنحوه ثقتهم، خاصة أصلحهم وأعلمهم عمر بن عبد العزيز، وقد رأينا فيما سبق ثناء عمر بن عبد العزيز على الزهري. أما تلميذه ابن إسحاق فلم نسمع منه أنه اتصل بأحد من خلفاء بني أمية، ولعل موقف ابن إسحاق هذا من الدولة الأموية كان منسجما مع موقف عامة أهل المدينة الذين كانوا لا يحملون ودّا لبني أمية، ولم تنطو قلوبهم على حب لدولتهم وخلفائها ورجالها- باستثناء عمر بن عبد العزيز- الذي كان موضع حب وإعجاب وثقة جميع المسلمين على اختلاف اتجاهاتهم ومشاربهم لسلوكه القويم وصلاحه وتقواه وعدله وطهارة سيرته، أما بقية خلفاء بني أمية فلم يحظوا بحب أهل المدينة ولا رضاهم، أو قل: إن موقف أهل المدينة من خلفاء بني أمية كان أقرب إلى العداء والبغضاء منه إلى الولاء والحب والود.
ولعل أهل المدينة لم ينسوا قط يوم الحرة أو موقعة الحرة التي جرت بينهم وبين جيش الخليفة الأموي يزيد بن معاوية (سنة 63 هـ) على إثر ثورتهم ضده التي قادها عبد الله بن حنظلة، والتي انتهت بهزيمتهم وقتل الكثيرين منهم.
ونسب للجيش الأموي أعمال فظيعة إذا صحت تكون كارثة؛ لأنها تخالف مبادئ الإسلام وآداب الحرب فيه حتى مع غير المسلمين فكيف مع مسلمين يعيشون في جوار رسول الله صلّى الله عليه وسلم، على أية حال لم ينس أهل المدينة ذلك اليوم ولم تصف نفوسهم لبني أمية، وظلت ذكرى ذلك اليوم الحزين عالقة في نفوسهم، وكان ابن إسحاق واحدا منهم، شاركهم في مشاعرهم تلك وليس هذا غريبا.