ويقول في موضع آخر [1] : «أما عن حمل الناس على الدخول في الإسلام أو اضطهادهم بأية وسيلة من وسائل الاضطهاد في الأيام الأولى التي أعقبت الفتح العربي، فإننا لا نسمع عن ذلك شيئا. وفي الحق أن سياسة التسامح الديني التي أظهرها هؤلاء الفاتحون نحو الديانة المسيحية كان لها أكبر الأثر في تسهيل استيلائهم على هذه البلاد» ا. هـ.
قد يظن البعض أن في الحديث عن التسامح الذي سارت عليه الحكومة الأموية في الأندلس نحو رعاياها المسيحيين في أسبانيا نوعا من المبالغة وقد يستشهد ببعض الحوادث التي استخدمت فيها الحكومة الأموية القسوة، الأمر الذي ينقض حديث التسامح، ونحن في الحقيقة لا ندعي أن التسامح كقاعدة عامة لم تخترق أو لم تحدث تجاوزات. بل نعترف بحدوث تجاوزات كثيرة سجلها المؤرخون المسلمون قبل غيرهم سواء مع النصارى أو مع المسلمين، ولكنها تبقى تجاوزات محدودة ويبقى التسامح هو السياسة العامة المتبعة في الأوقات العادية.
فعلى سبيل المثال: عند ما حدث الهيج أو التمرد أو الثورة في الربض أيام الحكم الأول (180- 206 هـ/ 796- 822 م) وهي حادثة مشهورة في التاريخ الأندلسي؛ عندئذ قضى عليها الحكم بقسوة شديدة وطرد آلافا من الناس من مساكنهم، فعبروا مضيق جبل طارق ومنهم من سكن مدينة فاس في المغرب الأقصى ومنهم عدد كبير- قيل خمسة عشر ألفا- ذهبوا إلى الإسكندرية ثم تركوها أو طردوا منها بالأحرى فذهبوا إلى جزيرة كريت وأقاموا لهم دويلة هناك سنة (212 هـ 827 م) استمرت ما يقرب من قرن من الزمان ولقد أعفى الحكم المؤرخين من الدفاع عن تصرفه هذا؛ لأنه هو اعتذر عنه واعتبره ذنبا كبيرا ارتكبه ضد مواطنيه، وظل يستغفر الله منه طوال حياته [2] .
الحادثة الثانية: وهي أيضا من أشهر الحوادث في التاريخ الأندلسي؛ قصة النصارى الانتحاريين، وهم مجموعة من المتعصبين الذين أخذوا- لأسباب غير مفهومة- يسبون ويشتمون النبي محمدا صلّى الله عليه وسلم علنا وأمام المساجد وفي أوقات الصلوات، وهو عمل استفزازي لم يحتمله المسلمون وقد حكم على بعضهم [1] المرجع السابق (ص 157) . [2] انظر د. عبد الرحمن الحجى- التاريخ الأندلسي، مرجع سابق (ص 242) .