يحصلونه ويدرسون مما أثمر حضارة إسلامية زاهرة، يقول صاعد الأندلسي: «ثم لمّا أفضت الخلافة إلى الخليفة السابع منهم- المأمون- تمم ما بدأه جده المنصور، فأقبل على طلب العلم في مواضعه، واستخرجه من معادنه، بفضل همته الشريفة، وقوة نفسه الفاضلة، فداخل ملوك الروم، وأتحفهم بالهدايا الخطيرة، وسألهم صلته بما لديهم من كتب الفلاسفة، فبعثوا إليه بما حضرهم من كتب أفلاطون وأرسطوطاليس وأبقراط وجالينوس وإقليدس وبطليموس، وغيرهم من الفلاسفة، فاستخار لها مهرة التراجمة، وكلفهم إحكام ترجمتها، فترجمت له على غاية ما أمكن ثم حض الناس على قراءتها ورغبهم في تعلمها» [1] .
وإذا كانت الأمم التي تريد أن تنهض في وقتنا الحاضر وتلحق بركب الدول المتقدمة وتسعى في الوصول إلى تحصيل العلم والمعرفة بشتى الطرق، ومنها إيفاد البعثات من أبنائها إلى الدول الأكثر تقدما لتحصيل العلم، ومنها أيضا دعوة كبار الأساتذة الأجانب لإلقاء المحاضرات والدروس على أبنائها كأساتذة دائمين أو زائرين في جامعاتها، فإن هذا هو ما فعله المسلمون بالضبط في بناء نهضتهم العلمية، فقد أرسلوا البعثات والوفود للتعلم وجمع الكتب، ثم استقدموا كبار الأساتذة للتدريس في بغداد.
يقول ابن النديم في الفهرست: «إن المأمون كان بينه وبين ملك الروم مراسلات يسأل الإذن في إنفاذ ما يختار من العلوم القديمة المخزونة المدخرة ببلد الروم، فأجاب ذلك بعد امتناع، فأخرج المأمون لذلك جماعة، منهم الحجاج بن مطر وابن البطريق وسلم صاحب بيت الحكمة، وغيرهم، فأخذوا مما وجدوا ما اختاروا، فلما جاؤوا إليه أمرهم بنقله» [2] أي: ترجمته إلى اللغة العربية.
وتعددت وفود وبعثات المأمون إلى البلاد البيزنطية للبحث عن الكتب [3] ومن أعظم الأمثلة الدالة على التعاون في المجال العلمي بين المسلمين والبيزنطيين. وعلى تطلع المسلمين إلى المعرفة ما فعله المأمون من أجل استقدام العلماء البيزنطيين إلى بغداد، وذلك مثل محاولته استقدام أشهر عالم فلك ورياضيات بيزنطي في عهده [1] أحمد بن صاعد الأندلسي- طبقات الأمم (ص 76) . [2] الفهرست (ص 243) . [3] انظر أحمد أمين- ضحى الإسلام (2/ 63) ، مطبعة الاعتماد بالقاهرة سنة (1933 م) .