لم يكن عبيد الله عازما هذه المرة على الاستقرار فقد قبل أن يأخذ الجزية من الملكة- ألف ألف درهم- والتي دفعتها طائعة إنقاذا لبلادها [1] . وعاد إلى مرو. ولكن الحملات لم تنقطع أبدا على بلاد ما وراء النهر فقد واصل خلفه سعيد بن عثمان بن عفان حملاته على بخارى [2] وغيرها من بلاد ما وراء النهر، ثم تصاعدت الحملات على يد المهلب بن أبي صفرة، والي خراسان من قبل الحجاج الثقفي (78- 83 هـ) . ثم على يدي ولديه يزيد بن المهلب والمفضّل (83- 85) وقد بدأ المهلب غزواته في بلاد ما وراء النهر سنة (80 هـ) ، حيث يقول ابن الأثير:
وفي هذه السنة قطع المهلب نهر بلخ، ونزل على كشّ وأقام بها سنتين [3] ولما توفي المهلب سنة (83 هـ) خلفه ابنه يزيد على ولاية خراسان، فواصل غزو ما وراء النهر ثم واصل أخوه المفضل الغزو أيضا إلى أن عزله الحجاج بدوره وأسند ولاية خراسان إلى الرجل الذي شاءت له الأقدار أن يخطو الخطوة الحاسمة في فتح بلاد ما وراء النهر وأن يرتبط فتح هذه البلاد باسمه، ذلك الرجل هو قتيبة بن مسلم الباهلي، الذي استثمر جهود كل القادة الكبار الذين سبقوه، وحرثوا له البلاد، ومهدوا له الطريق ابتداء من عبد الله بن عامر، ومرورا بزياد بن أبي سفيان وابنه عبيد الله، وسعيد بن عثمان بن عفان، والمهلب بن أبي صفرة وأولاده.
* فتوحات قتيبة بن مسلم فيما وراء النهر:
ولي قتيبة خراسان من قبل الحجاج بن يوسف الثقفي- والي العراق والمشرق كله- وكان ذلك سنة (85 هـ) على الأرجح، بعد عزل المفضّل بن المهلب.
وكان اختيار الحجاج لقتيبة لولاية خراسان اختيارا موفقا وجاء في موعده فقد كان الرجل من الأبطال الشجعان، ذوي الحزم والدهاء والغناء، ويعتبر بحق من كبار القادة الفاتحين الذين أنجبتهم الأمة العربية وعرفهم التاريخ الإسلامي.
ففي خلال نحو عشر سنوات (86- 96) فتح أقاليم شاسعة في آسيا الوسطى، وهدى الله على يديه خلقا كثيرا، فأسلموا ودانوا لله عزّ وجلّ [4] .
وقد شرف الله تعالى قتيبة بحمل راية الفتوحات الإسلامية في بلاد ما وراء النهر في وقت ملائم تماما، فقد استفاد من جهود كل من سبقوه، وكان يعتمد- بعد [1] تاريخ بخارى (ص 58) . [2] تاريخ بخارى (ص 58) . [3] الكامل في التاريخ (4/ 453) . [4] ابن كثير- البداية والنهاية (9/ 167) .