قابل بهذا الجيش الصغير جيوش البيزنطيين التي كانت مرابطة في مصر وقوامها مائة ألف جندي [1] . عدا الفلول التي انهزمت في الشام ولجأت إلى مصر، وانتصر على كل هذه الأعداد الكبيرة؛ لأنها فقدت روح القتال، وهبطت معنوياتها إلى الحضيض، ولم تستطع الصمود في أية معركة أمام الجيش الإسلامي، بدا من حصار الفرما وسقوطها، ومرورا بمعارك بلبيس وأم دنين وعين شمس، وحصن بابليون، ثم معاركه في الدلتا حتى فتح الإسكندرية (سنة 21 هـ/ 642 م) واستغرق هذا الفتح نحو ثلاث سنوات [2] .
وكان أسهل فتح حققه العرب في بلد من البلاد، بسبب ترحيب المصريين بهم ومساعدتهم لهم، وقد كانوا عند حسن ظن المصريين بهم، فأحسنوا معاملتهم واحترموا عقيدتهم، ووفروا لهم حرية الدين التي افتقدوها في العهد البيزنطي، وأعادوا لهم رأس كنيستهم؛ البطريرك بنيامين، الذي كان مطاردا ومحكوما عليه بالإعدام من السلطات البيزنطية، لكن عمرو بن العاص لم يعده إلى كنيسته معززا مكرّما فقط؛ وإنما جعله من أقرب المقربين إليه، بل مستشاره في شؤون مصر الإدارية والمالية.
كيف نشأت فكرة فتح مصر في ذهن عمرو بن العاص، وما هي البواعث والدوافع الدينية والسياسية والعسكرية والاقتصادية التي جعلته يقتنع بضرورة فتحها وضمها للدولة الإسلامية وطرد البيزنطيين منها، وكيف نجح في إقناع الخليفة عمر بن الخطاب بفكرته حتى وافقه عليها، وكيف كانت وقائع ذلك الفتح العظيم ونتائجه؟ كل ذلك تجيب عنه أبحاث أخرى في هذا الكتاب.
أما هذا البحث فقد خصص لموضوع محدد؛ وهو دور المصريين في إنشاء البحرية الإسلامية وبناء الأساطيل الحربية، لا لمصر وحدها، بل لبلاد الشام وبلاد المغرب العربي الإسلامي؛ لأن مصر أصبحت منذ الفتح الإسلامي هي حصن الإسلام ورباطه في جناحه الغربي، أي حارسة أرضه والذائدة عن حياضه؛ وهذا أمر قد أخبر عنه النبي صلّى الله عليه وسلم قبل الفتح بسنوات؛ فقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «إذا فتح الله عليكم مصر؛ فاتخذوا فيها جندا كثيفا. فذلك [1] ابن عبد الحكم- المصدر السابق (ص 56) . [2] انظر عن هذه المعارك تاريخ الطبري (4/ 104) وما بعدها. وانظر حركة الفتح الإسلامي في القرن الأول للدكتور شكري فيصل (ص 118) وما بعدها.