الخليفة عمر نفسه، ولا من قائد فتح مصر عمرو بن العاص؛ تجاهل أهمية مصر العسكرية والوقف دونها، ولو حدث ذلك لانتقدهما العسكريون وخطؤوهما.
وفي العراق استقر الفاتح العظيم سعد بن أبي وقاص في المدائن عاصمة الأكاسرة من آل ساسان، بعد انتصاره الرائع عليهم في موقعة القادسية العظيمة، وهنا تصور عمر رضي الله عنه أن الخطر قد زال عن الدولة الإسلامية، باندحار جيوش الفرس والروم، ومن ثم فليس هناك داع للاستمرار في المعارك؛ فهذه البلاد التي فتحت بتلك السرعة، وإن انتزعت من الفرس والروم؛ فهي ليست بلادهم، فهي أرض عربية، ومعظم سكانها عرب، والفرس غرباء على العراق ومحتلون له، والروم غرباء على الشام ومحتلون له أيضا، ومشاعر السكان لم تكن ودية في العراق للفرس ولا في الشام للروم؛ لأسباب كثيرة.
وفي ضوء ذلك يمكن أن نفسر ونفهم مقولة الإمبراطور هرقل اليائسة وهو يغادر أنطاكيا بعد انكسار جيوشه وهزيمتها الساحقة؛ خاصة في معركة اليرموك الخالدة فقد قال- والألم يعتصر قلبه على جهوده الضائعة التي بذلها في استرداد هذه البلاد من الفرس قبل سنوات قليلة-: «عليك يا سوريا السلام؛ ونعم البلد هذا للعدو» [1] .
هذه رواية البلاذري لمقولة هرقل.
أما بتلر فقد ذكرها بصيغة أخرى في كتابه «فتح العرب لمصر» ؛ نقلا عن المصادر البيزنطية، ولكنها تؤدي ذات المعنى؛ يقول بتلر: وعرف الإمبراطور أن بقاءه بالشام قد أصبح لا غناء فيه فرحل عنها- أنطاكيا- إلى القسطنطينية في البحر، في شهر سبتمبر (سنة 636 م) ، وقال إذ هو راحل: «وداعا يا بلاد الشام؛ وداعا ما أطول أمده» [2] ويقول بتلر معلقا على مقولة هرقل: «وكأننا بها تحمل ما كان يدور في نفسه من أن مجده الغابر ونصره الباهر قد انتهيا بعد الخذلان والعار، وأنه إذ يقولها ليودع عزه وبطولته» [3] . فلماذا قال هرقل هذه المقولة اليائسة التي تعبر عن فقدان الأمل نهائيّا في استرداد بلاد الشام من أيدي المسلمين؛ مع أن هذه البلاد ذاتها كان الفرس قد استولوا عليها؛ ثم استردها منهم هو نفسه منذ سنوات قليلة (622- 628 م) ؟ ليس هناك من تفسير معقول ومقبول لذلك [1] فتوح البلدان (ص 142) . [2] بتلر- فتح العرب لمصر (ص 173) . [3] بتلر- فتح العرب لمصر (ص 173) .