دولة الإسلام بالمدينة. وكانت بداية باهرة، ففي تلك المدينة الصغيرة قامت الحكومة الإسلامية، التي أرست دعائم الحق والعدل والمساواة بين البشر جميعا.
وبعد أن وضع النبي صلّى الله عليه وسلم أسس الإسلام في المدينة المنورة، استمر يؤدي المهمتين الأساسيتين اللتين اضطلع بهما:
الأولى: مهمة تلقي الوحي وتبليغه للناس.
والثانية: تطبيق الشريعة وتنفيذ أحكامها، وقيادة الأمة الإسلامية ورعاية مصالحها ورسم مستقبلها وعلاقاتها الخارجية.
ولما التحق النبي صلّى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى، كان معنى هذا انتهاء المهمة الأولى. أما المهمة الثانية، وهي قيادة الأمة الإسلامية؛ فقد أصبحت شاغرة، وكان لا بد من شغلها، ولقد أدرك أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم ضرورة أن يختاروا- وعلى وجه السرعة- من يخلف النبي في قيادة الأمة، في ذلك الظرف العصيب الذي أعقب وفاة النبي صلّى الله عليه وسلم، وبدا اهتمامهم بهذه القضية من إعطائهم إياها الأولوية على كل شيء سواها، حتى على دفن جسد النبي الطاهر- عليه الصلاة والسلام- وكرهوا أن يبيتوا ليلة واحدة بدون إمام [1] . وكان هذا يمثل قمة الإحساس بالمسؤولية من جانب الصحابة- رضوان الله عليهم- والذي يتابع مناقشاتهم الجادة التي جرت في سقيفة بني ساعدة [2] يدرك مدى فهمهم العميق لطبيعة دينهم التنظيمية، وإخلاصهم النيّة في محاولة اختيار أفضلهم وأرجحهم عقلا لتولي هذا المنصب الخطير، منصب خلافة النبي في قيادة الأمة الإسلامية، ويعجب ببعد نظرهم، وحسمهم للأمور؛ إذ لم ينته اليوم الأول على وفاة النبي صلّى الله عليه وسلم حتى كان الله قد وفقهم إلى اختيار أبي بكر الصديق رضي الله عنه لتولي منصب الخلافة. فكان خير خلف لخير سلف، قاد الأمة بتجرد ومهارة فائقة في معالجة مشاكلها الداخلية والخارجية.
ثم أسلم الراية لابن الخطاب العظيم، الذي تابع المسيرة الخالدة. وقفز بالدولة قفزة هائلة في جميع الميادين، ودلل على القدرة العقلية العربية على القيادة والتنظيم السياسي والإداري، وأخذت دولة الإسلام تتطور حتى أصبحت أعظم دولة [1] راجع د. ضياء الدين الريس- الإسلام والخلافة في العصر الحديث (ص 205) وما بعدها ثم انظر آراء الفقهاء في وجوب تنصيب إمام للمسلمين، يطبق الشريعة ويرعى مصالح الأمة في الأحكام السلطانية للماوردي (ص 5) وما بعدها. [2] انظر تفاصيل ما جرى في سقيفة بني ساعدة في الطبري (3/ 199) وما بعدها، وابن حجر- فتح الباري (7/ 30) وما بعدها، وابن الأثير (2/ 220) .