التقدم في هذا الاتجاه ظل بطيئا إلى عام الحديبية. فقد كانت الحديبية نقطة تحول كبرى في تاريخ الدعوة والدولة معا، فبعد الحديبية انفتح الطريق أمام انتشار الدعوة وامتداد الدولة وذلك بفضل بعد نظر الرسول صلّى الله عليه وسلم ومهارته السياسية الفائقة ففي شهر ذي القعدة من العام السادس الهجري أعلن الرسول عن عزمه للخروج معتمرا مسالما لا محاربا، وخرج بالفعل في ألف وأربعمائة من أصحابه، ولعله أراد أن يختبر نوايا قريش فلعلها راجعت موقفها من الدعوة- خصوصا بعد الهزائم العسكرية التي منيت بها- وتفتح معه صفحة جديدة، فها هو يمد يده إليها فماذا هي صانعة، وصل الرسول صلّى الله عليه وسلم إلى الحديبية بالقرب من مكة وواتته الأخبار بعزم قريش على منعه من دخوله مكة، واتصلت بينه وبينهم المفاوضات- التي لا نريد أن نقف عندها طويلا الآن- وانتهت إلى ما عرف بصلح الحديبية، والذي كان من أهم بنوده وأعظمها أثرا على مستقبل الدعوة والدولة ذلك البند الذي نص على هدنة أو فترة سلام بين الفريقين مدتها عشرة أعوام.
وقبل الرسول هذه المعاهدة- رغم المعارضة الشديدة من بعض أصحابه- واستثمرها بنجاح فائق ظهر أثره، واضحا بعد فترة وجيزة.
ذلك أنه ما إن استقر في المدينة بعد عودته من الحديبية حتى شرع في تنفيذ خطة واسعة النطاق لتبليغ الدعوة إلى جميع مناطق شبه الجزيرة العربية وإلى الدول الأجنبية المجاورة. ففي شهر المحرم من العام السابع الهجري أرسل ستة سفراء دفعة واحدة، إلى كسرى فارس وهرقل- إمبراطور الروم- والمقوقس في مصر، ونجاشي الحبشة، وأمير غسان بالشام، وزعيم بني حنيفة في اليمامة [1] .
* اليمن أول إقليم عربي يدخل تحت سيادة الدولة الإسلامية:
والذي يهمنا من أمر هذه الرسائل الآن، هو أمر رسالته إلى كسرى فارس؛ فقد كانت هذه الرسالة وما ترتب عليها من رد فعل مفتاح إسلام أهل اليمن، ودخولهم [1] انظر رسائل النبي صلّى الله عليه وسلم إلى الملوك والأمراء المعاصرين له في ابن حجر- فتح الباري بشرح صحيح البخاري (1/ 32) وما بعدها (8/ 127) ، وصحيح مسلم- بشرح النووي (12/ 107، 108) ، وتاريخ اليعقوبي (3/ 67) وما بعدها، وابن الأثير الكامل في التاريخ (2/ 145) ، والسيرة الحلبية (3/ 244) وما بعدها، ومحمد حميد الله- مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة (ص 81) وما بعدها، وأحمد زكي صفوت- جمهرة رسائل العرب (1/ 32) وما بعدها، ود. محمد حسين هيكل- حياة محمد (ص 383) وما بعدها.