كان من بنود صلح الحديبية أن من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده فليدخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم فليدخل فيه. فدخلت قبيلة خزاعة في عهد النبي، ودخلت بنو بكر في عهد قريش، فلما كانت مؤتة، وخيّل إلى قريش أن المسلمين قد قضي عليهم، فلما اعتدت بنو بكر على خزاعة- وهم حلفاء النبي- نصرتهم قريش ولم تراع صلح الحديبية، وبهذا تكون قد نقضت المعاهدة نقضا صريحا. ولم يكن النبي صلّى الله عليه وسلم ليقبل من قريش هذا العبث بالعهود، خصوصا في هذا الجو النفسي الذي شاع بعد مؤتة. والنبي من ناحيته وفيّ لقريش تماما بكل التزاماته نحوها، وطبقا لما نص عليه صلح الحديبية، حتى أنه لم ينصر بعض المسلمين الذين كانت تعذبهم قريش؛ لأنه التزم بذلك، وأكبر مثل على ذلك، قصة أبي جندل بن سهيل بن عمرو قصة أبي بصير. ومع ذلك تنقض قريش العهد بهذه البساطة، أليس ذلك استخفافا بالمسلمين؟! لذلك عزم النبي صلّى الله عليه وسلم على غزو قريش، وتلقينها درسا في احترام العهود. ولم تقو قريش على مواجهة النبي، ففتحت مكة أبوابها وأذعنت قريش لأمر الله ورسوله. وضرب الرسول لهم أروع الأمثلة في العفو والتسامح، فنسي ما صنعوه معه طوال عشرين عاما.
فلما دخل البيت العتيق، وقريش كلها في قبضته، قال لهم: «ماذا تظنون أني فاعل بكم؟» قالوا: خيرا، أخ كريم وابن أخ كريم. قال: «اذهبوا فأنتم الطلقاء» [1] .
فتحت مكة في العشرين من رمضان في العام الثامن الهجري، وأسلمت قريش وبعد أسبوعين من فتح مكة، علم النبي في أثنائها أن هوازن تعد العدة للهجوم على المسلمين، فقرر أن يباغتهم قبل أن يباغتوه فحدثت موقعة حنين وهزمت هوازن وحلفاؤها من ثقيف ثم حاصر النبي الطائف لإخضاع ثقيف التي تحصنت فيها، ولكن الرسول صلّى الله عليه وسلم رفع الحصار عن الطائف؛ لأنه كان على يقين أنه بعد فتح مكة وإسلام قريش، فلن تقو أية قبيلة عربية على حربه، وأن ثقيف آتية إليه طال الزمن أو قصر، ولقد استشار النبي نوفل بن معاوية الدئلي في المقام على حصار ثقيف فقال له: «يا رسول الله ثعلب في جحر إن أقمت عليه أخذته وإن تركته لم يضرك فأذّن بالرحيل» [2] . [1] ابن الأثير- الكامل (2/ 252) . [2] ابن الأثير- الكامل (2/ 267) .