وهي قد انتصرت على دولة ندّ لها وهي دولة الفرس التي كانت تنازعها زعامة العالم المعروف حينئذ، فلو قدر النبي أن المسلمين سوف يضطرون لحرب الروم لأمدهم بإمدادات أكبر. على كل حال توجهت حملة مؤتة إلى وجهتها وعلى رأسها القواد الثلاثة الذين عينهم النبي صلّى الله عليه وسلم، وهم زيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن رواحة، فلما وصلت الحملة وعلم قوادها أن الروم جمعوا جموعهم لحربهم «أقاموا على معان ليلتين يفكرون في أمرهم، وقالوا: نكتب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فنخبره بعدد عدونا، فإما أن يمدنا بالرجال، وإمّا أن يأمرنا بأمره فنمضي له فشجع الناس عبد الله بن رواحة» [1] .
أي: إن المسلمين قدروا خطورة الموقف وتدارسوه، ولولا غلبة حماسة عبد الله ابن رواحة عليهم لربما اختلف الموقف واختلفت النتيجة. أو لو أرسلوا إلى النبي لكان من الممكن أن يمدهم بالرجال، أو يرى رأيا فيه نجاحهم وانتصارهم، ولكن قدر الله وما شاء فعل.
سرت كلمات عبد الله بن رواحة في روح الجند وحمستهم للقتال خصوصا عندما قال: «يا قوم والله إن الذي تكرهون للذي خرجتم تطلبون؛ الشهادة، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة، ولا نقاتلهم إلا بهذا الدين، فانطلقوا فما هي إلا إحدى الحسنيين، فقال الناس: صدق والله، وساروا» .
بدأت حرب عاتية شرسة بين جيشين ليس بينهما أدنى تكافؤ، فماذا يصنع ثلاثة آلاف في مواجهة مائتي ألف من الروم والعرب الذين ينضوون تحت سلطانهم، وقاتل جند الله- كما هو العهد بهم- قتالا مجيدا، واستشهد قوادهم الثلاثة على التوالي، ثم آلت القيادة إلى عبقري الحرب، سيف الله خالد بن الوليد رضى الله عنه الذي نظر إلى الموقف نظرة ثاقبة، وقدر بفطرته العسكرية، وحرصه على المسلمين أن الاستمرار في الحرب أمر خطر قد يؤدي ببقية المسلمين، ورأى أن الحكمة تتطلب منه أن ينقذ المسلمين من الهلاك فوضع خطته البارعة للانسحاب وانسحب بمن بقي من المسلمين وعاد إلى المدينة حيث استقبلهم الناس مظهرين استياءهم من موقفهم، وعيروهم وقالوا لهم: «يافرار فررتم في سبيل الله» وكان تقدير الناس أنهم فروا من المعركة ولم [1] انظر عن غزوة مؤتة المصادر الآتية: ابن هشام (2/ 420) ، الروض الأنف- السهيلي (2/ 12) وما بعدها. ابن سعد- الطبقات (2/ 128) وما بعدها. ابن الأثير- الكامل (2/ 235) .