بعد هذه الرحلة الجميلة في مدائن السلام، وبعد أن امتلأت نفسي قناعة بفضل
الله على عباده وما وهب لهم من أصناف فضله مما يرمم أجسادهم ونفوسهم وأرواحهم،
أخذت نفسا عميقا طرحت في شهيقه كل الوساوس التي كانت تملؤني بالصراع، وشربت من
زفيره كل ألوان السلام..
بعد ذلك النفس العميق لم أشعر بنفسي إلا وأنا بين أهلي وفي بيتي، وقد
رأيتهم ينظرون إلي نظرة ممتلئة بالحزن والألم.. فسألتهم: ما الذي حصل؟
قالوا: بل أنت الذي تخبرنا ما الذي حصل.. وأين كان عقلك.. ومع من كنت
تتحدث طيلة اليومين السابقين؟
أردت أن أخبرهم عن معلم السلام، ومدائن السلام، وما رأيت من عجائب، وما
اكتسبت من معارف، لكني وجدت أني لو فعلت ذلك، فإني سأفتح بابا يصعب علي إغلاقه،
وسأظل أجادلهم، ولا ينتهي جدالي، وسأظل أصارعهم، وأنا موقن أني لا أصارع أحدا إلا
غلبني، لذلك تظاهرت بعدم علمي بشيء.. وقلت لهم: لم أفعل أي شيء.. لقد كنت هنا، ولم
أفارق هذا المكان.. وعقلي معي طبعا.. هو دائما يرافقني..
لكنهم فاجأوني بجهاز تسجيل.. شغلوه.. فسمعت صوتي، وهو مرة يسأل معلم
السلام.. ومرة معلم الطعام.. ومرة يتحدث مع ابن سينا.. وأخرى مع الزعتر
والبابونج..
والحمد لله أن الأصوات التي سجلت لم يكن فيها إلا صوتي وحده، أما سائر
الأصوات التي كانت تتحدث معي، فلم تفلح أجهزتهم البدائية في تسجيلها..
لم أهتم كثيرا بما عرضوه علي، بل رحت أضحك لأزيل عنهم ما ألم بهم من
ألم.. لكنهم واجهوني بما لم يكن في حسباني، لقد ذكروا لي أنهم سيعرضون ذلك التسجيل