فكل ما يبنى على قلوب الخلق يضاهي ما يبنى على أمواج
البحر، فإنه لا ثبات له، والاشتغال بمراعاة القلوب وحفظ الجاه ودفع كيد الحساد
ومنع أذى الأعداء كل ذلك غموم عاجلة ومكدرة للذة الجاه، فلا يفي في الدنيا مرجوها
بمخوفها.
وقد راعى
الشاعر الناصح هذا المعنى حين قال:
عش خامل الذكر بين الناس وارض به
فذاك أسلم للدنيا وللدين
من عاشر الناس لم تسلم ديانته
ولم يزل بين تحريك وتسكين
وقال بعض
الحكماء: (الخمول نعمة والنفس تأباه، والظهور نقمة والنفس تهواه)
قلنا: عرفنا
الترياق الأول.. فما الثاني؟
قال زكريا: أن
يعلم أن السبب الذي لأجله أحب الجاه - وهو كمال القدرة على أشخاص الناس وعلى
قلوبهم - إن صفا وسلم فآخره الموت.. فليس هو من الباقيات الصالحات، بل لو سجد لك
كل من على بسيط الأرض من المشرق إلى المغرب إلى خمسين سنة لا يبقى الساجد ولا
المسجود له، ويكون حالك كحال من مات قبلك من ذوي الجاه مع المتواضعين له.. فهذا لا
ينبغي أن يترك به الدين الذي هو الحياة الأبدية التي لا انقطاع لها.
قلنا: عرفنا
الترياق الثاني.. فما الثالث؟
قال زكريا:
أن يعلم خطر حب الجاه على دينه، فإن من غلب على قلبه حب الجاه صار مقصور الهم على
مراعاة الخلق، مشغوفاً بالتودد إليهم والمراءاة لأجلهم، ولا يزال في أقواله
وأفعاله ملتفتاً إلى ما يعظم منزلته عندهم، وذلك بذر النفاق وأصل الفساد، ويجر ذلك
لا محالة إلى التساهل في العبادات والمراءاة بها وإلى اقتحام المحظورات للتوصل إلى
اقتناص القلوب، ولذلك شبه رسول الله a حب الشرف
والمال وإفسادهما للدين بذئبين ضاريين، فقال a
:( ما ذئبان جائعان أرسلا في
غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف