قال الرجل: ولكن الذاكرة لا يمكنها أن تستمر طويلا في الحفاظ
على ما حفظته..
قال سليمان: ذلك عندما يكون الحديث هملا لا قيمة له.. ولكن
الحديث إن كان له أهمية وقيمة عند صاحبه، فإن الأيام لا تزيده إلا تثبيتا.. فإن كان
له أهمية عند المجتمع جميعا، فإن ثباته يكون راسخا.. فإن توقفت قيمة الإنسان عليه
لا يمكن وصف حد لرسوخه.
وهكذا المحدثون كانت قيمتهم بقدر محفوظاتهم، وبقدر دقة
محفوظاتهم.. فلذلك يرعونها أتم رعاية.. ويخشون أن يقعوا في الهفوة الواحدة، فينزل
عليهم من عذاب الله ما توعد به محمد من يكذب عليه.. وتنزل عليهم من لعنة المجتمع
ما يجعلهم متهمين فيه بأبشع التهم وأرذلها، وهي الكذب على نبيهم.
ولذلك.. فإن من خشي منهم الخطأ أو السهو أو الغفلة سارع إلى
كتابة ما يحفظه ليعين به ذاكرته.
وهكذا.. وبعد بحوث طويلة ممتدة في أساليب المحدثين في التعامل
مع النصوص التي وردتهم عن نبيهم نزل على فؤادي برد اليقين بأن ذلك المنهج هو
المنهج الأمثل في الابتعاد عن الأسطورة والخرافة والدجل..
لقد قال أستاذي العلامة الكبير المحقق الشيخ شبلي النعماني
مقارنا ما بذله المسلمون في تمحيص ما ورد عن نبيهم بما فعله غيرهم من الأمم: (لما
أرادت الأمم الأخرى من غير المسلمين أن تجمع في أطوار نهضتها أقوال رجالها
ورواياتهم؛ كان قد فات عليهم زمن طويل، وانقضَى بينها وبينهم عهد بعيد؛ فحاولوا
كتابة شؤون أُمّة قد خلت، ولم يميّزوا بين غث ذلك الماضي وسمينه، وصحيحه وسقيمه،
بل لم يعلموا أحوال رواة تلك الأخبار ولا أسماءهم ولا تواريخ وِلادتهم؛ فاكتفوا
بأن اصطَفُوا من أخبار هؤلاء الرواة المجهولين ورواياتهم ما يُوافِق هواهم،
ويُلائِم بيئتهم، وينطبق علَى مقاييسهم. ثم لم يمض غير زمن يسير حتى صارت تلك
الخرافات معدودة كالحقائق التاريخية المدونة في الكتب. وعلى هذا المنهاج السقيم
صُنِّفت