تركت دمشق.. لأسير منها إلى بلاد الهند.. وبالضبط إلى بلدة فيها
يقال لها (مدراس).. ولم يكن في نيتي حين ذهبت إليها إلا السياحة المجردة عن كل
غاية.. ولكن فضل الله كان يدخر لي فيها من العلوم ما لا يمكن أن أحصله بأي جهد، أو
أناله بأي فكر.
في حديقة من حدائقها الغناء، جلست أستذكر ما مررت به في رحلتي
إلى محمد.. لقد امتلأت به إعجابا من أخمص قدمي إلى مفرق رأسي..
ولكن خاطرا خطر على بالي في ذلك المحل قال لي: أليس من الممكن
أن يكون محمد رجلا قد اكتملت له العبقرية، فلذلك اكتمل له من الإنسانية ما اكتمل..
وهو بذلك لا يعدو أن يكون إنسانا عبقريا.. نعم هو أعظم العباقرة على الإطلاق..
ولكنه مع ذلك يظل مجرد عبقري لا حظ له مما يدعيه من النبوة.
ولم تقف نفسي عند ذلك.. بل زادت.. فراحت تقول لي: إن إنسانا
يدعي تلك الدعاوى العظيمة، ويبني كل ذلك البناء الضخم على مجرد دعوى لا يستحق
الاحترام.. بل لا يستحق أن يوضع في سجلات العباقرة.. إن المكان الوحيد الذي يصلح له
هو سجلات المخادعين والمزورين والكذابين.
ولم تقف نفسي عند ذلك.. بل زادت ما لا أستطيع التعبير عنه..
ألحت هذه الخواطر وأمثالها علي إلحاحا شديدا لم أجد منه فكاكا..
حتى امتلأت جميع لطائفي بالعذاب.. فهي لم تستطع أن توفق بين العبقرية، وبين الخداع
والكذب والتزوير.
بينما أنا كذلك في عذابي إذا بي أسمع الأذان يرتفع من مئذنة من
مآذن مدراس العريقة.. وكنت وكأني أسمعه لأول مرة يخاطبني أنا، ويقول لي بلسان فصيح
(محمد رسول الله)..
لقد نزلت هذه الكلمة على قلبي وعقلي وروحي وسري.. وشعرت عند
سماعي لها بلذة لا تدانيها لذة..