وفي كلا
العلتين تدفع العوامل النفسية التي تدعو للجريمة بالعوامل النفسية الوحيدة المضادة
التي تصرف عن الجريمة.. فالمحارب إذا فكر في الجريمة لتجلب له الشهرة ذكر العقوبة
فعلم أنها تجر عليه الخمول.. وهو إذا فكر في الجريمة ليخيف الناس وينفي الأمن عنهم
في بعض الأرض ذكر العقوبة فعلم أنه سينفي عنه الأمن في كل الأرض، وحينئذ ترجح ـ في
أغلب الأحوال ـ العوامل النفسية الصارفة عن الجريمة على العوامل النفسية الداعية
إليها.
قلنا: فما نواحي الرحمة التي تكتنف هذه العقوبة؟
قال: هما رحمتان.. أما الأولى.. فهي أنه لا يحكم على أحد
بكونه محاربا إلا إذا ثبت عنه ذلك بالدليل القاطع النافي للشبهة.. فالشريعة تدرأ
الحدود بالشبهات.
والثانية.. هي أنها أعطت فرصة للمحاربين للتراجع والتوبة[1].. وفي ذلك الحين تخفف عنهم
العقوبات، ولا يبقى منها إلا ما يرتبط بحقوق العباد التي يمكن أن يتصالحوا فيها
فيما بينهم.. لقد قال الله تعالى يذكر ذلك، ويعقب به آية العقوبة :﴿ إِلَّا
الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ
اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ (المائدة:34)
البغي:
قلنا: فحدثنا عن العقوبات التي شرعتها الشريعة لردع البغاة.
قال: لقد عرفتم أن من مقاصد الشريعة حفظ الأمن ورعاية
العدالة وتوفير الاستقرار..
[1] نص الفقهاء على أن حدّ
الحرابة يسقط عن المحاربين بالتّوبة قبل القدرة عليهم.. وذلك لقوله تعالى
:﴿ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ
فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ (المائدة:34)
ولكن هذه التوبة لا أثر لها
إلا فيما يرتب بحق اللّه ، وهو تحتّم القتل ، والصّلب ، والقطع من خلاف ، والنّفي،
أمّا حقوق الآدميّين فلا تسقط بالتّوبة، فيغرمون ما أخذوه من المال ـ عند الجمهور
ـ إن كان المال قائما ، ويقتصّ منهم إذا قتلوا ، ولا يسقط إلاّ بعفو مستحقّ الحقّ
في مال أو قصاص.