في اليوم الرابع، صاح السجان بصوته المزعج قائلا: في هذا
المساء.. سيساق إلى الموت (ميثم التمار)[1].. وقد رأت إدارة السجن أن تسمح
لجميع السجناء بتوديعه والجلوس إليه بشرط ألا يخترقوا قوانين السجن.. ومن يخترقها
فسيتحمل مسؤولية خرقه.
ما هي إلا لحظات حتى اجتمع جميع السجناء حول رجل كان ممتلئا
قوة وعزيمة وحماسة، وكأنه لم يكن ينتظر في ذلك اليوم تلك المشنقة التي شنق فيها
إخوانه.
ما إن اجتمعت الجموع حوله حتى قال بنبرة ممتلئة بالقوة
والحنان: لقد حدثكم أخي زيد عن الرفق الذي جاءت به الشريعة.. وأنا سأحدثكم عن
الحزم الذي جاءت به.. فلا يمكن أن تستقيم موازين العدالة من غير أن يجتمع هذان
الركنان: الحزم والرفق..
ومع أن الحزم قد يوحي بالقوة والشدة.. إلا أنكم ستكتشفون من
خلال ما سأذكره لكم أن الحزم الذي جاءت به شريعة الإسلام هو الحزم الوحيد الذي
يقتصر على وضع الشدة في موضعها دون أن يتجاوز به موضعها.
الحزم في الإسلام كالعملية الجراحية المحدودة التي لا يقصد
منها إلا استئصال الشر..
[1] أشير به إلى ميثم بن يحيى
التمّار الأسديّ الكوفيّ (ت60 هـ) كان من خواصّ صحابة علي بن أبي طالب، وكان يبيع
التمر في الكوفة؛ لذا لقّب بـالتمّار.. استشهد بأمر من ابن زياد بعد أن قطع يديه ورجليه
ولسانه؛ ليتبرّأ من علي بن أبي طالب.
وقد أخبره علي بما سيحصل له،
فقال: (إِنَّك تُؤخَذ بعدي، فتُصلَب وتُطعَن بحربة، فإذا كان اليوم الثالث ابتدر منخراك
وفمك دماً، فيخضِّب لحيتك، فانتظر ذلك الخضاب، وتصلب على باب دار عمرو بن حريث عاشر
عشرة، أنت أقصرهم خشبة، وأقربهم من المطهرة، وامض حتَّى أريك النخلة التي تصلب على
جذعها). فأراه إيَّاها، ثمّ قال: (يا ميثم، لك ولها شأناً من الشأن)، فكان ميثم يأتيها
ويصلِّي عندها، ويقول : بوركت من نخلة، لك خلقت، ولي غذِّيت، ولم يزل يتعاهدها حتَّى
قطعت، وحتَّى عرف الموضع الذي يصلب فيه. وكان ميثم يلقى عمرو بن حريث فيقول له : إنِّي
مجاورك، فأحسن جواري، فيقول له عمرو : أتريد أن تشتري دار ابن مسعود أو دار ابن حكيم
؟ وهو لا يعلم ما يقصد بكلامه.