قال: إلى رجل من هولندا كان
اسمه (اسبينوزا)[1]..
لقيته في أمستردام بين أعضاء جماعته اليهودية.. وقد كان حينها مطرودا مهانا بينهم
بسبب ادعائه بأن الله يكمن في الطبيعة والكون، وأن النصوص الدينية ليست سوى
استعارات ومجازات غايتها أن تعرّف بطبيعة الله.
لم يكن يهمني منه إلا البحث عن
منهجه العقلي.. فقد سمعت أنه من تلاميذ ديكارت.. وأنه من الذين حاولوا أن يطوروا
أفكار ديكارت ومنهجه.
عندما التقيت به أول مرة قال
لي: لقد رأيت بعد بحث طويل ومعاناة قاسية أن طرق معرفة
[1]هو باروك سبينوزا
(1632-1677م)، فيلسوف عقلاني مادي، من أهم فلاسفة الحضارة الغربية الحديثة، بل هو
ـ مع نيتشه ودريدا ـ فيلسوف العلمانية الأكبر.. عاش في هولندا، ولكنه من أصل
ماراني. أفصح أبوه وجده عن انتمائهما اليهودي بعد وصولهما إلى أمستردام حيث أصبحا
من قادة الجماعة اليهودية ومن كبار التجار فيها، وكانا يعملان بالاستيراد أساساً.
ولد
في أمستردام لأبوين يهوديين. اكتسب في بدء حياته سمعة المفكر الحر، ولذلك طرد من
المجتمع اليهودي في عام 1656م. ثم عاش في عدة مدن في هولندا صانعًا للعدسات.
كان
سبينوزا طوال حياته داعيًا للتحرر الديني والسياسي.. وكان يعتز باستقلاله، ورفض
عروضًا لمعاش من الملك لويس الرابع عشر ملك فرنسا، وأستاذية جامعية في ألمانيا.
وبالرغم من أن سبينوزا وجد الاحترام من الجميع فإنه كان مثيرًا للجدل بسبب آرائه
الشاطحة في الدين والفلسفة والسياسة.
تأثرت
فلسفة سبينوزا بالفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت، وتبنى آراء ديكارت في أن الفكر
والمادة هما النظامان الأساسيان للواقع، وأن العالم المادي ليس سوى أجزاء من
المادة تتحرك وتتفاعل وفق قوانين سببية. إلا أنه في كتابه الأخلاق (نُشر بعد موته
بقليل)، طور أفكار ديكارت بطرق غير تقليدية تمامًا. ادعى سبينوزا بأن الإله أو
الطبيعة هي المادة الحقيقية، وزعم أنّ الفكر والمادة هما من الصفات المتناهية
للإله، وأن كل الأشياء الفانية (مثل عقول البشر وأجسامهم) مجرد أشكال أو حالات من
صفات الإله.. لم يترك سبينوزا مجالاً لأي استثناءات للسببية، منكرًا الإرادة الحرة
للبشرية والإله.. إلا أنه رأى، أن حرية العقل يمكن أن تحقق بالفهم العقلاني
لمكاننا في الطبيعة وخضوعنا لقوانينها خاصة قانون الانفعالات.
وقد
تعددت روافد فلسفة سبينوزا فكانت من بينها روافد يهودية، ولكنه كان يرفض صحة القول
بدقة أسفار العهد القديم ـ وقد ذكرنا رأيه في هذا في الأجزاء السابقة من هذه
السلسلة ـ وهو يرفض دعوى اليهود أنهم شعب الله المختار.. وقد تأثر كثيرًا بفلاسفة
العصور الوسطى من اليهود مثل موسى بن ميمون وابن جبرول وهذان كانا متأثرين بالفلاسفة
الإسلاميين الذين جمعوا في تصوراتهم، لله والخلق والكون، بين الإسلام والمشائية
والأفلاطونية المحدثة.