الاعتدال.. وكمثال قرآني على ذلك موقف القرآن من أكل
الشهوات أو استعمالها، والذي تنشأ عنه الأخلاق الخاصة بهذه القوة من قوى الإنسان،
فقد ورد ذكره في القرآن الكريم مقيدا بما يمنعه من الطغيان:{ وَهُوَ الَّذِي
أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ
مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ
مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ
حَصَادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ( (الأنعام:141)
ففي هذه الآية دعوة للأكل تنافي ما يدعو إليه الرهبان من
الجوع، ولكنها لا تنسجم كذلك مع ما يدعوا إليه أهل الشهوات من الاقتصار على الأكل
المجرد، بل تضم إليه أمرين: الأول عدم الإسراف، حتى لا ينمي هذا الأكل في الإنسان
أخلاق اليهيمية التي لا تبالي ما تأكل، ولا كيف تأكل، وهذا ما نص عليه القرآن:{
يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا
وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ( (لأعراف:31)
والثاني البذل، وعدم نسيان المحتاجين، لأن الشهوة قد تولد
الحرص المولد للبخل، فلذلك تعارض الشهوة بالبذل.
ومن الأمثلة ـ كذلك ـ ما ورد في القرآن من الحض في وقت
واحد على الإنفاق والتقتير:{ وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ
وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً( (الاسراء:29)، فغل اليد
إلى العنق يولد صفة البخل، وهي من شر الصفات، وبسط اليد كل البسط، قد يولد الفاقة
والفقر، وهو كذلك منبع من منابع الانحراف.
وبما أن الأخلاق تحتاج إلى ضوابط تحميها من من طرفي الإفراط
والتفريط، وتجعلها متناسقة مع بعضها البعض، فلا يطغى فيها جانب على جانب بحيث يؤثر
ذلك في جماله وكماله، فقد عبر القرآن عن هذه
الضوابط التي تحمي الأخلاق بمصطلح ( الاستقامة)، الذي ورد في مواضع متعددة من
القرآن:{ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا
اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا
تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ( (فصلت:30)،{ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا
رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ