كان الكل
يتحدث عن قدراته العقلية العجيبة إلى الدرجة التي جعلتني أنبهر به قبل أن أراه أو
أسمعه أو أقرأ له.. وقد جعلني ذلك، ولفترة محترمة من عمري أزكيه وأثني عليه مع أني
لم أعرفه.. لا من قريب ولا من بعيد..
لا تلوموني
على ذلك.. فلست وحدي في هذا.. فالعقل الجمعي يسيطر أحيانا علينا من حيث لا نشعر..
فنقف المواقف الخطيرة ثقة منا بتلك العقول الكثيرة التي اجتمعت وقررت وحكمت.. ولم
يبق لغيرها من العقول سوى أن تخضع لها وتسلم، اقتنعت أو لم تقتنع.. فيكفي أن يكون
الجمهور هو الذي تحدث، وهو الذي حكم، وهو الذي قرر.. وهل توازي عقولنا المفردة
عقول الجماهير؟
لكني، وبسبب
موقف محرج وقع لي مع بعض طلبتي قررت أن أتمرد على العقل الذي فرضه علي الجمهور..
وقد كان سبب
الموقف أني ذكرت صاحب ذلك العقل العجيب عند ذكري لأسماء المفكرين المعاصرين..
ويعلم الله أن نيتي لم تكن صادقة في ذلك.. بل كان قصدي هو أن يعرف طلبتي أنني أحيط
بكثير من الأسماء، وأعرف الكثير من المفكرين، وأن ذلك نتيجة لاطلاعي الواسع..
نعم زينت لي
نفسي الأمارة بالسوء حينها أن مقصدي نبيل.. فالطلبة يحتاجون إلى ثقة مطلقة في
أستاذهم ليستفيدوا منه.. ولذلك فلا حرج عليه ـ كما تفتي نفسي الأمارة ـ أن يتكلف ـ
في بعض الأحيان ـ أمثال تلك الحيل.
لكن الحفرة
التي حفرتها لهم وقعت فيها، إذ برزت طالبة ذكية نجيبة لي كما يبرز الأسد لضحاياه
الجرحى، وقالت لي بكل أدب: هل تعرف هذا العقل العجيب يا أستاذ؟
لم أجد ما
أقول، لكني احتلت لذلك بما تعلمته في فنون التعليم من حيل، فقلت لها: الكل يتحدث
عنه.. والكل يزكيه.. والكل يثني عليه.. ولا يخفى تأثيره في الجماهير العريضة في
وطننا العربي الكبير.. بل وصل تأثيره للعالم.
قالت: أنا لا
أريد الكل.. أريدك أنت.. أريد أحكام عقلك أنت.