وذكر من نعيم الجنة نعيما خاصا بالمقربين، فقال: ﴿عَيْنًا
يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ﴾ [المطففين: 28]
وقد أشار القرآن الكريم إلى منهج التحقيق بهذا القرب، فقال: ﴿وَاسْجُدْ
وَاقْتَرِبْ﴾ [العلق: 19]، فالسجود بكل الكيان لله هو أقرب طريق للقرب
الإلهي، كما قال (صلیاللهعلیهوآلهوسلم):
(أقرب ما يكون العبد من ربه في سجوده)[1]
ونفى القرآن الكريم ذلك القرب الوهمي الذي يخطر على المستغرقين في
الدنيا، فقال: ﴿ وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي
تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ
لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ﴾
[سبأ: 37]
وهكذا نرى اتفاق الرؤية العقلية مع الرؤية القرآنية في إثبات غنى الله
تعالى عن الحركة والانتقال لقدرته المطلقة أولا، ولقربه من كل شيء ثانيا قربا لا
يمكن تصوره، ولا تخيله لأن الله أعظم من أن يحيط به الخيال أو الوهم أو التصور.
وبناء على هذه الرؤية القرآنية والعقلانية اهتم العارفون من هذه الأمة
بالقرب الإلهي، وجعلوه غايتهم الكبرى.. متبنين في ذلك الرؤية القرآنية، لا الرؤية
الحسية التجسيمية التي تبناها أهل الحديث والسلفية.. وبذلك يتفق على هذه العقيدة
التنزهية كلا المدرستين الكبيرتين من مدارس الإسلام: مدرسة البرهان، ومدرسة العرفان.
ونحب هنا من باب التأكيد، وباب بيان أثر العقيدة التنزيهية في الترقي
والتحقق العرفاني والأخلاقي أن نذكر مقولات العارفين الذين اختصوا بتحويل المعاني
العقدية إلى معان ذوقية تتشربها الروح، وينفعل لها الجسد.